عدل عمر بن عبد العزيز وخشيته لله
ملأ الأرض عدلاً بعد أن كادت تملأ جوراً، إيه يا عمر! قد عشت عمرك زاهداً في كل ما
جمع البشر أتعبت من سيجيء بعـ دك في الخلافة يا عمر! بعد كل صلاة ينادي مناديه:
أين الفقراء؟ أين المحتاجون؟ فيقدم لهم الطعام والأموال، فلا والله ما تنساه البطون
الجائعة ولا الأكباد الظمأى ما دام في الأرض بطن جائعة أو كبد ظمأى. هو البحر من أي
النواحي أتيته فلجته المعروف والجود ساحله ولو لم يكن في كفه غير روحه لجاد بها
فليتق الله سائله رزقه الله الخشية، ومن رزق الخشية فقد رزق خيراً كثيراً، والذي
يجعل الله نصب عينيه يفتح الله عليه: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ [البقرة:282]. فتح الله على عمر فتحاً لا يخطر على البال ولا يدور بالخيال، فكان أخوف الناس لله، وهو يرجو الأمان من الله: يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:88-89]، وفي
الحديث القدسي يقول الحق تبارك وتعالى: (وعزتي وجلالي لا أجمع على عبدي
خوفين، ولا أجمع له أمنين، إن أمنني في الدنيا خوفته يوم القيامة، وإن خافني في
الدنيا أمنته يوم القيامة).
دخل عليه أحد العباد وهو محمد بن كعب القرظي، فجعل
ينظر في وجهه، فإذا هو وجه شاحب، وبدن نحيل، كأن جبال الدنيا قد سقطت عليه،
فقال: يا عمر ! ماذا دهاك؟ يا عمر ! ما الذي أصابك؟ والله! لقد رأيتك وأنت أجمل فتيان
قريش تلبس اللين، وتجلس على الوثير، لقد كنت لين العيش، نضر البشرة، والله لو
دخلت عليك يا عمر في غير هذا المكان ما عرفتك، فتنهد عمر باكياً، قال: أما إنك لو
رأيتني بعد ثلاث ليالٍ من دفني وقد سقطت العينان، وانخسفت الوجنتان، وعاثت في
الجوف الديدان، وتغير الخدان، لكنت لحالي من حالي أشد إنكاراً وأشد عجباً! فبكى
محمد وبكى عمر وبكى الناس حتى ضج المجلس بالبكاء. جعل الهم هماً واحداً،
فرضي الله عنه ورحمه، إنه هم الآخرة وكفى، عرف عمر نفسه، وعرف همه وغايته،
فرحم الله امرأً عرف قدر نفسه، لقد كسدت عنده بضاعات المنافقين والشعراء
والدجالين، وقام عنده سوق المساكين والفقراء، يدخل عليه أحد الشعراء فيمدحه،
فلم يجد سماعاً لما يقول، ولم يعطه عمر شيئاً من أموال المسلمين، فخرج وهو
يقول: رجل يعطي الفقراء ويمنع الشعراء.